وديت أديب سالم تموت مرتين
يوسف حاج علي
كان على انتظارك الطويل أن ينتهي في مكان ما، لكن ليس بهذه الطريقة المؤلمة.
ترحلين قبل أن تبردي نار قلبك بمعرفة مصير ولديك، ريشار وماري كريستين، العشرينيين اللذين اختطفا في ذلك اليوم المشؤوم من العام 1985.
عذراً أوديت، فخبر دهس سيارة لك لن يحرّك سكون أحد باستثناء عائلتك، أهالي المفقودين والمخطوفين.
لم يكن مقدراً لك أن تموتي، بحادث، أمام الخيمة التي نصبتها والأمهات الأخريات في وسط بيروت منذ سنوات أربع، اعتصاماً للمطالبة بأبنائكن المخطوفين. في هذا شيء من الظلم يحل مرتين. كأن الظلم الأول بغياب الحبيبين لم يكن كافياً.
الخيمة أكلت سقفها الرطوبة بفعل مطر الشتاء. وشمس الحر أضاعت لونها الأصلي. ومع هذا، لم تستسلمي ولا الأمهات الأخريات يوماً. عزيمتكن ما خارت للحظة. أصررت على أن تجعلي منها بيتاً أولاً لك على حساب بيتك الكائن في منطقة ساقية الجنزير. هناك حيث اختطف ولداك في شارع يطلق عليه، لسخرية القدر، اسم الوحدة الوطنية، على لوحة معدنية علقوها على شرفة منزلك.
مسكين دوري. لم يتوقع أن يراك بهذا الشكل. كنت قادمة لتنامي مكانه في الخيمة هو العريف السابق في الجيش اللبناني الذي ينام مكانكن أنتن الأمهات من أجل أن تذهبوا إلى منازلكن كي ترتاحوا. ما زال حتى الساعة يتخيل صورتك بعد الحادث ولا يتذكر شيئاً من التفاصيل.
قال إنك تكوّرت على نفسك مثل الجنين في رحم أمه ولم تتفوهي بكلمة. الدم الأحمر الذي غطى الرصيف حيث قذفتك السيارة كان يسيل من جسمك كله. لم يتمكن من تحديد الجزء المصاب. صدمته كبيرة، ومستمرة.
كيس الخضار الذي كنت تحملينه لتحضير وجبة تسد رمقك ورمق الجالسات في الخيمة تفرقت محتوياته في الهواء. حقيبتك وحذاؤك طارا إلى الجهة الأخرى. لم تستنجدي. لم تصرخي. لم تتفوهي بكلمة واحدة. فتحت عينيك على مجهول لم تتوقعيه. لعلك كنت ترين في هذه اللحظات طيف الغائبين اللذين قضيت عمرك تبحثين عنهما من دون جدوى.
في مستشفى رفيق الحريري الحكومي وجوه حزينة وعيون دامعة تبحث عن إجابات. تتصل بي وداد حلواني لتقول وهي تشهق إنك بين الحياة والموت. تدعوني لأن أحضر لأرى الظلم المستمر اللاحق بك. أحاول تهدئتها. حين أًصل يسألني الشاب الجالس على الاستعلامات من انا فأدعي أني من العائلة. خجلت صراحة من الدخول بصفة أخرى. يستغرب الشاب. يقول إن العائلة كبيرة وتصل تباعاً.
في صالون الانتظار وجوه كثيرة. الصمت مطبق. العائلة كلها هنا. عائلتك. وداد وغازي وصونيا وآخرون. أسأل عن وضعك فيكون الجواب: رحلت أوديت. عظام جسمك السبعيني الذي هدّه الانتظار لم تحتمل ضربة السيارة المسرعة. قبل الجسد كان قلبك الذي لم يحتمل لوعة الغياب. الضربتان في القلب وعلى العظام هما أقوى من قدرة جسمك على الاحتمال.
إلى الخيمة تعود العائلة لتبحث في مراسم الجناز والدفن. عائلتك لا تعرف مذهبك. تحار بشخص رجل الدين الذي يجب أن يصلي عليك. يريدون أن يصلوا عليك قرب الخيمة التي لم تصلي إليها في يومك الأخير. هذا أعز الأماكن إليك. تستحقين أن تودعيه. والعائلة تدين لك بهذا.
عذراً أوديت، فباستثناء العائلة، رحيلك لن يهم كثر.
السياسيون منهمكون باحتساب المقاعد النيابية التي يخططون لنيلها. خيمتك والأمهات الأخريات ليست أكثر من نقطة غير مرئية في تظاهرات مليونية. وهي، إن وقفوا قربها، لم تكن أكثر من خلفية مناسبة لصورهم الباهتة وابتساماتهم الصفراء. تضامنهم معك ومع الأمهات لن يزيد عن عبارات منمقة، كاذبة، يجيدون اختيارها. أنت وهن مجرد أقلية غير محسوبة في قاموسهم. رحيلك بهذه الطريقة سيظل وصمة عار على جباههم. ودمك الذي سال على الرصيف لن يصفع وجوههم بالأحمر فقد نسوا حمرة الخجل منذ زمن طويل.
عذراً أوديت، لأن هذا أكثر ما نستطيع.
نعى الراحلة التي توفيت يوم أمس الأول إثر صدمها بسيارة مسرعة كل من لجنة أهالي المعتقلين في السجون السورية، لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين - «سوليد»، وأصدقاء الأهالي، وعائلتا أديب وسالم.
وينقل الجثمان عند الثالثة من بعد ظهر غد الثلاثاء من مستشفى بيروت الحكومي إلى خيمة الاسكوا حيث تقام صلاة البخور وتتلى كلمات الوداع، ومن ثم تنقل وتقام مراسم الدفن في كنيسة سيدة النهر للروم الكاثوليك في برج حمود، وتوارى الثرى في مدافن العائلة.
وتقبل التعازي في خيمة الاعتصام من العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساء طيلة أيام الأسبوع.
ملاحظة: في أعلى بيان النعي كان اسما ابنها وابنتها المخطوفين ريشار وماري كريستين سالم. وهو حق أول واخير في نعي المتوفى، لم يحرما منه، وإن كانا غائبين
Living Room Design
9 years ago
No comments:
Post a Comment