خيمة أهالي المفقودين... فَقَدت "حارستها"
أوديت رحلت مع الحرقة على ولديها
"شفتن بنومي (...) تلات مرات شفت الصبي بنومي. مرة شفته عم يقطع الشارع هون، من هاك الرصيف لهون، ومرة شفته داخل اوضتي وجيت بدي بوسه بس ما بسته، وحطيت تمي على وجو بس... يعني عايشه على ذكراهن، اكيد بحس هني موجودين كأنن هني موجودين (...) ما اجاني يوم احساس انهم انفقدوا... لاّ... بعدهن طيبين ... ايه...". هكذا كانت تخبر اوديت سالم.
اليوم، اليوم فقط ستستطيع اوديت ان تقبلّ ريشار وماري كريستين. اليوم فقط ستقدر على رؤيتهما، وستعي كل تحركاتهما. وربما اليوم فقط، ابتسمت تلك الام السبعينية، وان تكن الحرقة محفورة في قلبها الساكت.
لكن ابتسامة اوديت لم تخف الدموع. بالامس، وحده صوت البكاء كان يسمع في خيمة اهالي المعتقلين امام " الاسكوا". صوت عميق لبكاء سمع من بعيد، لحظة وصول نعش اوديت. دموع تقاسمتها الامهات والرفيقات والصحافيون والنائب الوحيد الذي حضر مراسم الدفن، غسان مخيبر.
بالبكاء الذي فاق صوت "النوبة"، استقبلت اوديت للمرة الاخيرة في منزلها الذي انتقل الى الخيمة منذ اربعة اعوام. هناك، حمل الشباب النعش، واقترب رئيس "سوليد" غازي عاد منه، حدّق اليه طويلا وتأملّه صامتا. كانت عيناه وحدهما تتكلمان، فيما رئيسة "لجنة المخطوفين" وداد حلواني غارقة في حزنها، تضرب بيديها على النعش وتصرخ "يا الله (...)" كان الحزن يعمّ الحديقة، كصور اوديت التي زرعت على العشب للمصوّر طارق حداد. صور تخبرك عن سيرة امرأة ابت ان تترك الخيمة يوما، وعن والدة "تركت" حياتها منذ 17 ايلول 1985 لتبدأ رحلة التفتيش عن ولديها. باتت حياتها طيف ريشار وماري كريستين. ففي كل صورة، حكاية. في واحدة، تحضرّ التبولة. وفي اخرى، تطعم عاد. وفي الثالثة، تواجه رجل امن في احدى التظاهرات الساخنة. وفي صورة رابعة، ترفع يدها لتقول وداعا. انما الرفيقات رفضن التصديق ان اوديت تودعهن . كن يصرخن فوق النعش: "راحت... ما شافت ريشار وماري...". كانت الورود تلّف النعش تحت صليب فضي سمّر عليه. كان "عرس الوداع" ثقيلا جدا، فبدل ان يقام عرس الاستقبال للازواج والابناء المفقودين، غرقت الخيمة في السواد والحداد خلال صلاة استثنائية لامرأة استثنائية، قضت في ظروف استثنائية.
حضر الولدان
الثالثة بعد الظهر، اكتمل المشهد. حضر ايضا المرشحان مسعود الاشقر ونديم الجميل. نعش اوديت بات في وسط الباحة الخارجية للخيمة. وامامه مذبح متواضع، واكاليل بيضاء. جو رهيب عمّم المرارة والبكاء على جميع الحاضرين، كأن الحزن عدوى، لم يسلم منه احد. كان الشباب غير مصدقين، جاد يعقوب، هادي سعيد، جهاد عاد، وميشال عون وغيرهم كثر... يتسمّرون في الارض، ويبكون كأطفال. يفتقدون الام الحنون. الجميع حضروا. وحدها شقيقة اوديت ناديا هي التي بقيت من عائلتها، فحضرت وجلست الى جانب الامهات. لا يزال ينقص حضور "العزيزين"، وتلحظ ان ثمة اكليلا باسم ريشار وماري كريستين، فهما "الحاضران الدائمان" اينما حلّت اوديت. ثوان، وتأتي سامية عبد الله بصورة كبيرة لريشار وماري كريستين. تلك الصورة الجديدة التي كانت اوديت تنوي وضعها مكان القديمة، قبل وقوع الحادث بلحظات، فعاجلها القدر. ذاك المشهد "اشعل" الامهات اللواتي لم يتوقفن عن البكاء. وبدأت الهتافات: "ماتت مكسورة الخاطر... وين المسؤولين... عم يموّتونا، بس ما رح تموت ولا وحدة منّا بعد... نحنا بدنا نموّت الكبار... البلا ضمير...".
كان يصعب تهدئة الوضع. وحده صوت الابوين البر ابي عازار وفادي نعمان استطاع قليلا اراحة الامهات الغاضبات. هدأ الجو قليلا، لترفع اصوات الترانيم وصلاة القيامة، لكن أنين الامهات لم يتوقف. كل واحدة استرجعت شريط قهرها، ومأساتها من فقدان زوج او الاشتياق الى ابن. هكذا هي لحظات الموت، تكون دائما قاسية، وتفتح صفحات من الوجع والقهر الذي لا يمحى.
فحص الحمض النووي
24 عاما، ناضلت اوديت. واربعة اعوام لم تزر بيتها في ساقية الجنزير الا نادرا، فكانت الخيمة هي البديل. تقف ربيعة رياشي لتتكلم بصعوبة، هي من تفتقد الزوج المخطوف تعي فعلا حجم المرارة، وتقول: "تراك يا اوديت تصرخين، ريشار وكريستين اين انتما؟ انا الكلمة المنسية في عقول المسؤولين، ومن هم المسؤولون؟ اين هو الضمير؟ لطالما كانت حياتك عاشقة للامل والالم. هنا بيتك، وستبقين معنا، ونعاهدك على الاستمرار".
بدورها، قالت حلواني: "يا اوديت، نحن لم نعتد اخلالك بالقاعدة، ولا بأي قاعدة، ولا تزال انظارنا مسمّرة على باب الخيمة، نتوقّع خروجك منها في كل لحظة ليكتمل النصاب ونعقد الاجتماع"، وسألت: "الى متى يستمر المسؤولون في التهرب منا؟ والى متى يتلطّى المجرمون وراء اصابعهم ولا يجرؤون على التطلع في اعيننا؟".
وتوجهت الى ابو ناضر: "نأمل في ان تبادر الميليشيات الى المساعدة في معالجة هذا الملف، لانه لا يزال هناك مفقودون على طول الاراضي اللبنانية"، مشيرة الى ان "ثمة تزامنا في ان يصادف يوم دفن اوديت موعد الجلسة الاولى للنظر في الدعويين المقدمتين الى قاضي الامور المستعجلة في شأن المقبرتين في حرج بيروت ومار متر".
ولان اوديت كانت تنوي وضع اسم ريشار وماري كريستين في صندوق الاقتراع، عاهدها الامين العام لـ"مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب" محمد صفا انه سيضع اسمها، لانها تختصر بذاتها قضية.
وكانت الكلمة الاخيرة لعاد الذي كشف ان "فحصا للحمض الريبي النووي اجري على جثة اوديت، ليكون اول فحص في بنك الحمض النووي المنوي انشاؤه"، معلنا ان "الجمعيات المهتمة بالاخفاء القسري لن تنتظر طويلا قرار المسؤولين وستبدأ كمجتمع مدني بانشاء الهيئة الوطنية تمهيدا لانشاء البنك، لنصل الى يوم تقتنع فيه الحكومة بأن هذا هو الحل لانهاء ملف المفقودين في شكل شفاف".
وكما دخل نعش اوديت، خرج. بالبكاء وصورة ولديها ترافقها الى مثواها الاخير في مدافن العائلة في رأس النبع. رحلت اوديت وتركت الخيمة... والرفاق. لم يكن عاد يصدّق المشهد امامه. هو الذي لم يتحمّل ان تضحي اوديت بصحتها من اجل استمرار الخيمة، كما روى مرارا انه في اواخر 2006 طلب منها ازاحة الخيمة، فردت بصلابة: "لا تعبك ولا تعبي لازم يروحوا ضيعان قبل ما نوصل لحل، وطالما الله عاطيني صحة، وفيّ شرش بينبض، هالخيمة ما رح تتزحزح..." رحلت اوديت وتركت وصيتها (...).
منال شعيا
Living Room Design
9 years ago
No comments:
Post a Comment