رحيلها كان أسرع من عودتهما
أوديت سالم "حارسة" خيمة المعتقلين
انتظرت ولديها 24 عاماً وقضت دهساً !
كتبت منال شعيا:
قبل عامين، اقسمت اوديت سالم انها لم تعد تحب الحياة لأنها قست عليها جدا، ولكنها تخاف ان تموت قبل ان ترى ولديها. كان ذلك في 27 حزيران 2007. لم تكن تعي تلك الام السبعينية ان خوفها سيصبح حقيقة مرّة.
ماتت اوديت سالم، انما ليس بحرقتها فقط، بل نتيجة تعرضها للدهس من سيارة مسرعة، قرب خيمة اهالي المعتقلين المعتصمين منذ اربعة اعوام امام "الاسكوا".
ولعلّها مفارقة ان اوديت ابت ان تغادر الخيمة يوما منذ قيامها في 11 نيسان 2005، وها هي تقضي دهسا على بعد امتار قليلة من الخيمة. هكذا هي دوما، قصص الاعتقال والخطف، تجرّ المأساة والقهر.
عمر بأكمله مرّ واوديت انت ظرت ما يهدّئ قلبها، فمأساتها مزدوجة. ولداها الاثنان مخطوفان. ريشار وماري كريستين، خطفا في 17 ايلول 1985 في ساقية الجنزير، فيما كانا عائدين من عملهما. لا ذنب لهما، ولا خبر افرح قلب الوالدة عنهما. 24 عاما انتظرت، اي ما يوازي ربع قرن، وقضت قبل ان يعودوا.
في الخيمة، تلّقت الامهات خبر مقتل اوديت كالصاعقة، وللوهلة الاولى، لم يصدّقن. حزن عميق، دموع، تنهدات، وغصات متتالية. سكت قلب اوديت عصر السبت الفائت، بعدما تضرّر جسدها ووجهها بالكامل نتيجة حادث الدهس، فنزفت حتى الموت.
"لن أغادر الخيمة"
ما ان تطأ الخيمة، حتى يرتسم على صدرك ثقل غريب. كل أم اتخذت زاوية لها، ورئيس "سوليد" غازي عاد يتابع تفاصيل مراسم الدفن، بعدما رافقها الى مستشفى بيروت الحكومي مع عدد من الامهات، بعيد الحادث. كان يصعب عليهن دخول الخيمة من دون اوديت. كانت هي من تستقبلك دائما. في اي وقت تزور الخيمة ترى اوديت. تطالعك بضحكة وقبلة وعناق، وسرعان ما تأتيك بكوب ماء او عصير او فنجان قهوة، ومن الصعب ان "تهرب" من "صحن تبولة" من يديها. ذات يوم، قالت: "تعبت، اشعر بأنني لن ارى ولديّ... لكني لن اغادر الخيمة حتى اراهما او حتى اموت (...)"، فكان القدر قاسياً جداً.
اربعة اعوام متواصلة، كانت اوديت "سند" الخيمة، هكذا يعلّق عاد: "هذه الخيمة قامت بفضل امرأة اسمها اوديت سالم، كانت تقول دائما: الخيمة ستبقى هنا ما دمت على قيد الحياة، وما دامت قضيتنا بلا حل".
ففيما، كان بعض الامهات يتعبن احيانا، كانت اوديت الداعمة الاولى لهن، وكانت هي البديلة من كل ام لا تستطيع المجيء، او تمرض، او تتأخر في الوصول، فكانت تحضر اوديت على الفور، كما لو انها تملك "مفاتيح" الخيمة، تفتحها وتقفلها، و"تسهر" على امنها وديمومتها.
يصعب على عاد التحدث. فأوديت معروفة بـ"أم غازي"، كانت بمثابة الوالدة له. وفي بيتها، تعلق صورته بلباس التخرج، لطالما رددت: "ارى فيه ابني. اشمّ فيه رائحة ريشار...هو الوحيد يللي بيبللي قلبي". وكلما زرت الخيمة، تراها ترعاه، تنتبه اليه، تحضر له الطعام او الثلج، وغالبا ما تحرص على اطعامه بيديها. هي علاقة أم بابنها بامتياز، ولطالما عرف عنها ان "غازي عاد نقطة ضعفها". فبعد وفاتها، اول غرض عثر عليه في محفظتها كان صورة صغيرة لغازي.
لم يستوعب عاد بعد بعد ما حصل. فالى من يشتاق، الى الأم ام الى الناشطة في التظاهرات والاعتصامات التي حملت الارقام القياسية، ام الى المرأة القوية التي لا تحيد عن مطلبها؟ يقول: "كان موضوع الخيمة لا يحمل المزاح معها، ممنوع الخطأ في هذه المسألة، وادارتها لها هي التي سمحت باستمراريتها".
لحظات، ويتوقف الكلام. تشعر بأن الغصات تخنق. وحدها كلمات قليلة تسمع، يتابع عاد: " هنا بيتها، وحرصنا على أن تقام صلاة البخور في الخيمة، الثالثة بعد ظهر غد، وستتلى كلمات وداع، على ان تلحقها مراسم الدفن في كنيسة سيدة النهر للروم الكاثوليك في برج حمود، وستقبل التعازي في الخيمة طوال ايام الاسبوع".
"اشتقت إلى أولادي"
من عائلة اوديت، بقيت اختها وابنها فقط. زوجها توفي قبل اعوام، وولداها على لائحة الاخفاء القسري. لذلك، تبدو عائلتها الكبيرة الآن رفيقاتها الامهات، من صونيا عيد الى ربيعة رياشي ونور حنا وماري حداد وفاطمة الزيات ونهيل شهوان وغيرهن الكثير الكثير.
اما لقصة رئيسة "لجنة اهالي المخطوفين" وداد حلواني مع اوديت فمعنى آخر. تعرّفت اليها عام 1989، وحين رأتها اوديت للمرة الاولى خلال احد الاجتماعات الرسمية، قالت لها: "اسمع بأمراة اسمها وداد حلواني تنشط في مجال المخطوفين، واريد ان اتعرّف اليها، نريد ان ننسق معاً". فردت حلواني: "انا هي امامك". ومنذ ذاك التاريخ، باتتا صديقتين. دموع حلواني لا تتوقف، ونقمتها ايضا، كما لو ان هؤلاء الامهات لا ينقصهن مرارة وحزن حتى تأتيهن فاجعة جديدة بموت اوديت بهذه الطريقة البشعة. تقول حلواني: "كنت اشعر بأنها من مسؤوليتي، ولطالما فكرت من اين تكتسب هذه الام تلك القوة والصبر. تبلغ من العمر 78 عاما، ولم تتعب من الصمود، او من النوم داخل خيمة". تتذكر حلواني الزيارة الاولى لبيت اوديت، وتروي: "حين دخلت المنزل، شعرت بفراغ رهيب، ببرودة في عزّ الصيف، ولا سيما حين تدخل غرفة ريشار وماري كريستين. ربما، اوديت هي الاولى التي اشعرتني بمعنى الفرق بين فقدان زوج وفقدان ابن (...)".
لم تترك اوديت تظاهرة او تحركا، الا كانت من اولى المشاركات في الصفوف الامامية. في 28 حزيران 2006، كبّلت يديها بسلاسل حديد واعتصمت امام السرايا برفقة الامهات. وفي 21 تموز 2008، اعتصمت على طريق القصر الجمهوري علّ الصوت يصل الى آذان المسؤولين. وفي 11 نيسان الفائت، لم تكل من الترداد امام مجلس النواب: "وين ولادنا، بدنا ولادنا...". كلها محطات، اظهرت مدى عناد اوديت. الجميع يصفها بالعنيدة، لكنها حنونة. هي قاسية حيال القضية، لا تستسلم بسهولة لكنها طيبة القلب. شفافة، لا تساير، وصادقة.
تقول فاطمة الزيات: "راحت اوديت... يا الله. لم تر ريشار وماري كريستين... ما في أحلى منها اوديت. كانت تحمل همّ رفيقاتها، تحضر لهن الشاي والمناقيش، وتهتم لمشاكلهن".
نادراً ما كانت اوديت تبكي امام أحد. تخبر الزيات: " في احدى المرات، فاجأتها في الخيمة، كانت تتمدد على السرير، وتغرق في دموعها، وحين رأتني، بادرت بالقول: "اشتقت الى أولادي (...)".
أقرب الرفيقات الى اوديت، ماري حداد ونور حنا. الثلاثة كنّ ينمن معا داخل الخيمة. نور ترتدي الاسود، ولا تتكلم. هي تبكي فقط. اما حداد، فلا تنسى يوم الاحد الماضي، حين حضرت اوديت القربانة الاولى لحفيدة ماري. تقول: " كانت تبدو جميلة، لا اريد الا ان اتذكرها وفق هذه الصورة، لانني حين اصررت على رؤيتها في المستشفى ممددة على السرير، لم استوعب انها اوديت. لطالما احبت التنسيق، لا اصدق انها ماتت بهذه الطريقة، حتى داخل الخيمة، كانت تسهر على ادّق التفاصيل، وترتبها كما لو انها منزلها".
كلما اتت حداد الى الخيمة، تكون اوديت في انتظارها، " كانت بمثابة اخت، حتى ان ابنتي تعتبرها فردا من العائلة. اليوم، ربما لم اشعر بعد بالفراغ، ولم استفق من الصدمة، لكن اعرف ماذا ينتظرني في الايام المقبلة، سأشعر بفراغ اوديت كثيرا". دقائق، ولا تقوى ماري على الكلام اكثر...
قبل ساعات من الحادث، كانت اوديت تنوي تبديل صورة ولديها، لم تكن تحب ان تبهت او تصفر، لكن الموت عاجلها. بالامس، بدّل الامهات الصورة بأخرى اكثر حداثة كما كانت تريد اوديت، وحرص العديد منهن على ان يقصدن مكان الحادث بالقرب من الخيمة. كانت الطريق نظّفت من دم اوديت، ولكن متى "ينظف" المسؤولون ضميرهم من هذا الملف؟ كل ام باتت تخاف على مصيرها، هن لا يردن الا الحقيقة، حتى ولو كانت مفجعة. ويسألن: الا تكفي قصة اوديت حتى تعلن "خطة طوارئ" توقف هذه المهزلة الرسمية في قضية المعتقلين والمخطوفين؟ الى متى الانتظار، حتى يموت كل الامهات، فترتاح السلطة من اعتصامهن المتواصل؟!
اسئلة لا تزال برسم من يدّعي المسؤولية، ويهتمّ ولو قليلا لدموع امهات وحرقتهن. بالامس، مشهد اسود، اضاف على خيمة الاهالي مرارة لا تقاس بحزن آخر. هؤلاء الامهات اللواتي رفضن الحداد على اولادهن، ارتدين بالامس الاسود على رفيقتهن... "اوديت سنفتقدك، وسنشتاق الى استقبالك وعناقك (...)".
Living Room Design
9 years ago
No comments:
Post a Comment