بعد 6 أشهر على دعويين لتحديد مقبرتي مار متر وحرج بيروت
قرار قضائي بتسليم تقرير "لجنة استقصاء مصير المفقودين"
فتح نافذة أمل للأهالي للمرة الأولى من 34 عاماً
كتبت منال شعيا:
للمرة الاولى منذ 34 عاما يشعر اهالي المعتقلين والمفقودين والمخفيين قسرا بجدّية حيال قضيتهم. وللمرة الاولى تسمع في اصواتهم نبرة الفرح طاغية على تلك الغصة الدفينة. وللمرة الاولى تسلك قضية المقابر الجماعية في لبنان السكة القانونية الصحيحة، بعيدا من المزايدات السياسية و"لملمة" الموضوع.
انما كل ذلك لا يزال سوى بداية في مسيرة الالف ميل التي انطلقت أمس، حين انشغل الاهالي بخطوة قضائية اولية، قد لا تشكل منعطفاً اساسياً اذا وضعناها في مسار الدعاوى القانونية الطويل، الا انها تمثل قاعدة ثابتة تدفعهم الى الاستحصال على اول مستند قانوني رسمي، يتحدث بالتفصيل عن المقابر الجماعية في لبنان، ليجبروا السلطة اللبنانية على "نبشه".
الخطوة تمثلت بقرار اتخذته القاضية زلفا الحسن في 23 تشرين الاول الماضي، في الدعويين اللتين قدمتهما "لجنة اهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" و"لجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين" (سوليد) لتحديد مواقع المقبرتين الجماعيتين في محلتي مار متر في الاشرفية ومدافن الشهداء في حرج بيروت، وهذا القرار يطلب من رئاسة مجلس الوزراء تسليم الملف المتعلق بالتحقيق الذي اجرته لجنة التحقيق الرسمية عام 2000، ويسمح ايضا للجنتين بالاطلاع عليه، بكل بنوده ومرفقاته.
انتصاران و بازار سياسي
الاهم ان هذه الخطوة كرّست لاهالي المعتقلين انتصارين:
الاول، حق الكشف على المقابر الحماعية وحراستها تمهيدا لتحديد هوية المدفونين فيها، بعدما دخلت مسألة المقابر اخيرا في بازار السياسيين وميزان حساباتهم، فأهملت قضية المفقودين الانسانية، فيما خيمة الاعتصام لا تزال رابضة امام "الاسكوا" منذ 11 نيسان 2005، ولا من يبالي او يسمع.
الثاني، حق الاطلاع على التحقيقات وحق رفع دعوى واللجوء الى القضاء.
هو صراع قديم سلكه اهالي المخفيين قسرا بالتعاون مع الجمعيات المعنية، وتخللّه الكثير من العقبات والعوائق، والقليل القليل من بصيص الامل، فكيف بدأت قصة الدعويين الاخيرتين؟
في 29 نيسان الفائت، تقدمت "لجنة أهالي المخطوفين" و"سوليد" أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت بدعويين لتحديد مواقع المقبرتين الجماعيتين في محلتي مار متر في الأشرفية ومدافن الشهداء في حرج بيروت وحراستها تمهيدا للتعرف الى هوية الجثث المدفونة فيها.
وقد استندت الدعويان الى أمرين: الاول، حق ذوي المفقودين في المعرفة، وقد بات مبدأ قانونيا مكرّسا دوليا.
والثاني، ان تقرير اللجنة الرسمية التي شكلت عام 2000 في عهد الرئيس سليم الحص لاستقصاء مصير جميع المخطوفين والمفقودين، والمعروف بتقرير العميد سليم ابو اسماعيل، ذكر صراحة هاتين المقبرتين.
ومعلوم ان التقرير الذي صدر في 25 تموز 2000، قرّر"ببساطة"، اعلان وفاة من اختفى قبل اربعة اعوام، وكان التقرير الاول الذي اصدرته اول لجنة رسمية كلّفت استقصاء مصير المفقودين. ويروي التقرير انه "خلال الحرب كانت جرافات مجهولة يقودها مسلح مجهول تجرف الجثث وتطمرها في التراب، وكان بعض الجثث يوضع في جوارير المدافن المخلوعة الابواب او في بئر، وهذه الجثث كانت مجهولة الهوية، كما كان البعض يعمد الى طمرها في بئر ووضع مادة الكلس عليها (...)".
وفي 28 تموز 2000 قال ابو اسماعيل: "ثبت لدينا بعد الاستقصاءات عدم وجود احياء لدى الاحزاب والميليشيات، كما نبشنا بعض المقابر ولم نتأكد من هوية الاموات (...)". وفي 3 آب 2000، قال مجددا: "اكتشفت مقابر جماعية في عدد من المناطق اللبنانية مثل مدافن التحويطة ومار نوهرا ومار متر وجبانة الشهداء، وفي منطقة المرامل والحرج والكرنتينا حيث عمد اصحاب احد العقارات الذين كانوا ينوون انشاء مبنى هناك، الى نقل الجثث بالشاحنات ورميها في وادي الجماجم. وكان بعضها يرمى في الآبار، كما وجدت جثث متفرقة ملقاة هنا وهناك في الجبال والحقول، الى مقابر جماعية في المناطق التي شهدت حروباً ونزاعات مثل سوق الغرب والشوف وتل الزعتر".
عند هذا الحد، توقف يومها العمل الرسمي، فهذا الاثبات لوجود مقابر لم يستتبع سوى بكلام عابر وغير واضح من دون اي خطوة تريح الاهالي، كإنشاء مختبر لفحص الحمض الريبي النووي (D.N.A)، او وضع خطة ميدانية لمعالجة مسألة المقابر.
من هنا، شكل قرار القاضية الحسن نافذة ضوء للاهالي، تمكنهم اولا من الاطلاع على هذا التقرير ووضع آلية لمسألة المقابر.
لا استهداف
وجاء قرار القاضية الحسن تبعا لتبادل اللوائح مع القيمين على هذه المقابر، أي مطرانية الروم الأرثوذكس في بيروت وجمعية المقاصد الخيرية، فأصدرت قراراً اعداديا في الدعوى الأولى قضى بتكليف كاتبها الانتقال إلى رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال على صورة عن كل الملف المتعلق بالتحقيق الذي أجرته لجنة التحقيق الرسمية، بما فيه صورة عن التقرير الطبي الصادر عن لجنة الأطباء الشرعيين المكلفين.
ويتضمن التقرير ملفا متكاملا يتعلق بالفحوص الطبية والاماكن المنوي نبشها، اضافة الى شهادات اشخاص، ومن المتوقع ان يصدر قرار مماثل في الدعوى الثانية المتعلقة بمدافن الشهداء في حرج بيروت.
رئيس "سوليد" غازي عاد بدا متقائلاً بـ"البداية المشجعة جدا"، وقال لـ"النهار": "يشكّل القرار الاعدادي بالنسبة الى الاهالي بارقة امل، وتكمن أهميته في أن الدولة قبلت الدعوى، وبات عليها تسليم الملف وتقديمه الى القضاء".
وعما اذا كان ثمة احتمال ألا يكون هناك تقرير متكامل في الاساس وان السلطة اوحت ذلك عام 2000 لاسكات الاهالي في محاولة منها لطمس القضية، يجيب عاد: "اذا ثبت هذا الامر، تكون الكارثة قد وقعت بالفعل، مما يكشف زيف السلطة وممارساتها حيال قضية انسانية مماثلة. اما في حال تخلّف السلطة، أي رئاسة مجلس الوزراء، عن تسليم الملف الى القضاء، فان في الامر مصيبة ايضا. وفي الحالتين، يشكّل القرار القانوني نقطة ايجابية لمصلحة الاهالي، بحيث يحرج السلطة ويجبرها على التفاعل مع قضيتنا وحضّها على التحرك".
وفي موازاة صدور القرار، كلّفت القاضية الحسن كاتبها التوجّه الى رئاسة مجلس الوزراء هذا الاسبوع، بهدف الحصول على الملف، وقد حدّدت الجلسة المقبلة في اواخر تشرين الثاني الحالي، فما هي الخطوات القانونية المرتقبة؟
جهة قانونية متابعة للقضية طلبت عدم اعلان اسمها لكون الدعوى لا تزال قائمة، اوضحت ان " القرار الاعدادي هو بمثابة قرار يصدر قبل الحكم النهائي، ويطلبه القاضي عادة للحصول على معلومات اضافية تساعده على متابعة الملف والتوسع فيه، بهدف الوصول الى خواتيمه".
واذ رفضت الجهة استباق الخطوات المقبلة، اشارت الى ان " القرار الاعدادي، يدلّ بالطريقة التي صدر فيها، على استعداد القضاء للمتابعة في الملف، مع احتمال قبول الدعوى، وبالتالي الوصول الى تحديد مكان المقبرة في محلّة مار متر، وتأمين الحراسة لها، ومن المتوقع ان يصدر القرار المماثل والمتعلق بمدافن حرج بيروت بعد نحو اسبوع".
ولكن، هل يحق للسلطة عدم تسليم الملف؟ تجيب الجهة: "احيانا كثيرة، وفي بعض الدعاوى، قد يستدعي القاضي شاهدا، يتخلّف عن الحضور، فيقرّر عندها القاضي السير في الدعوى ام لا، او اتخاذ بعض الاجراءات. وفي هذه الحالة، لا نتصوّر ان ثمة نية لمخالفة قرار قضائي، فهل تقبل رئاسة مجلس الوزراء بذلك؟ لا اعتقد".
على مقلب الاهالي، ثمة انتظار يشوبه القلق، وان تكن رئيسة "لجنة اهالي المخطوفين" وداد حلواني تلفت الى انه " بات لنا الحق اليوم في ان نتكّل على اساس قانوني. صحيح ان القرار الاعدادي قد لا يشكل شيئا بالنسبة الى مسار الدعوى، لكنه بعد اعوام طويلة من الصراع والمعاناة، لمسنا جدية من جانب القضاء لتعبئة فراغ طال عبر الممارسات السياسية ولعبة المصالح التي لا تنتهي".
وتابعت: "نحن لا نريد إلا ان ينصفنا القضاء. هذا قرار جدّي، وربما من المفارقة ان تكون قاضية اصدرته، لكونها الاقرب الى تلمّس معاناة الامهات والزوجات التي طالت".
بدوره، حرص عاد على التأكيد ان " هذا التحرك لا يستهدف مطرانية الروم الارثوذكس في بيروت ولا جمعية المقاصد. بالاساس، ليستا معنيتين بالملف او مستهدفتين، بل على العكس، يمكنهما مساعدتنا في التوصل الى الحقائق. وهذا حقنا. وقد آن للسلطة ان تتحمل مسؤولياتها في هذا الملف النازف، وتقرّر الالتفات الى موضوع المقابر، وفق آلية قضائية واضحة، لا كما حصل في منطقة حالات قبل نحو عام ونصف عام".
وفي الاسابيع المقبلة، سيشكل وفد من لجان الاهالي لزيارة مطرانية الروم وجمعية المقاصد للتنسيق والتعاون، وبالطبع، يدرس الاهالي جيدا الخطوات المقبلة، وان كانوا لا يفصحون عنها، ويأملون التوصل الى نبش المكانين المذكورين، بعد تسلم التقرير والتوسع في التحقيق، على ان تكون هذه الخطوة سابقة لتحركات مماثلة وفي اماكن اخرى يشتبه في وجود مقابر فيها، علّ ملف المقابر يفتح بكل تفاصيله.
وكانت "سوليد" و"لجنة أهالي المخطوفين" و"لجنة أهالي المعتقلين في السجون السورية" و"المجلس اللبناني لحقوق الإنسان" اصدرت بيانا مشتركا امس اعتبرت فيه انه "بمعزل عما ستؤول اليه هذه الدعوى، فان القرار شكل خطوة غير مسبوقة في اتجاه الاقرار بما يعانيه هؤلاء الاهالي منذ عقود وبما يطالبون به بدءا من لقاء الأمهات على خطوط التماس وصولا الى الخيمة القائمة منذ 2005 في وسط بيروت، مرورا بحملة من حقنا أن نعرف.
كما أن للقرار ايجابية ثانية مفادها الاعتراف بحق جمعيات ذوي المفقودين، التي تقدمت هي بالدعوى في الدفاع عن مصالح أعضائها. وهو امر أساسي يسمح لهؤلاء بالتضامن وتوحيد مطالبهم أمام المحاكم، وشرط اساسي لصمودهم في مواجهة محاولات سياسات النكران والاضعاف والتهميش(...)".
وتمنت ان "يشكل هذا القرار قدوة تحتذى لجميع المعنيين"، ودعت "امانة مجلس الوزراء ومطرانية الروم الأرثوذكس وجمعية المقاصد الاسلامية (اصحاب الأراضي) الى التجاوب مع وجهة القرار وتفهم أوجاع ذوي المفقودين والتعاون معهم لكشف الحقائق، على نحو يساهم في تغليب المبادئ المشتركة وكلمة الحق على أي اعتبار آخر".
أمس، تنفس اهالي المعتقلين الصعداء بعد زمن طويل من القهر، فيما المطلوب لا يزال كثيرا. ربما، لم تستطع بعد اوديت سالم ان ترتاح. هذه الام السبعينية التي قضت دهسا في ايار الماضي، وقلبها يحترق على ولديها ريشار وماري كريستين المفقودين منذ 17 ايلول 1985. ربما لم ترتح بعد، لكنها بالطبع علمت بما حصل. وعلمت انه بات للاهالي الحق في التكلم على مقابر جماعية والمطالبة بنبشها، حتى يعلم المعنيون ان "نبش القبور" لا يعني بالضرورة اذكاء الفتن، وانما هو مدخل للمصالحة والحفاظ على الذاكرة واراحة اهالي تعبوا من البكاء وملوّا المماطلة والاهمال.
Living Room Design
9 years ago
No comments:
Post a Comment