يراهنون على الزيارة الرسمية للحريري في معالجة الملف
أهالي المفقودين في سوريا: ننتظر عودة أبنائنا
انها الثانية عشرة ظهراً في العاصمة بيروت على مقربة من المجلس النيابي والسرايا الحكومي حيث ثقل القرار السياسي. تخرج سميرة زخريا من حقيبتها القديمة صورة لإبنها اسكندر خرّيج الجامعة اللبنانية الاميركية وتقول بكثير من الفخر والاعتزاز "هيدا إبني".
"ذهب ولم يعد"، تقول سميرة وهي تفرك كفيها من شدة البرد. فاسكندر الذي يكره السياسة وأخبارها، لم يستطع متابعة الدراسات العليا في اختصاصه عام 1985، ليس لأي سبب مادي او صحي، اذ بعد اقتحام مجموعة من المسلحين منزله في شارع مار الياس البيروتي "لطرح ثلاثة اسئلة وإعادته بعد دقائق"، جعلته يغيب لأكثر من 24 عاماً متتالياً، ليسرق من عمر والدته العجوز عقوداً من النضال والترقّب.
بين المتحف وتلك الخيمة "المدروزة" بالصور والاسئلة والرسائل، يستمر اعتصام اهالي المعتقلين في السجون السورية في الاسكوا بمزيد من الاصرار وكثير من الامل مع اقتراب زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى سوريا.
"منذ العام 1987 وانا انتظر عودته". تقولها السيدة حياة ياسين بهدوء مؤلم وهي تنتظر ابنها عماد الذي خطف على يد القوات السورية منذ 22 عاماً وهو في طريقه الى لبنان آتياً من الاردن، " فالى متى يطول الانتظار وقلوب مئات الامهات معلّقة منذ عقود؟، والى متى الاستمرار بالمتاجرة بهذه القضية من قبل البعض على حساب معرفة الحقيقة وحلّها كاملةً ؟". تضيف الام المثقلة بالتعب: " بيكفّي راح من عمرو سنين"، لتسأل بكثير من الحيرة وقليل من الترقّب: "هل ينجح دولة الرئيس الحريري بمعالجة هذا الملف الشائك وإعادة المعتقلين الى عائلاتهم؟".
يريد غازي عاد الذي يرأس لجنة المعتقلين والمفقودين في السجون السورية ان يعرف الاجوبة عن مصير المئات من الشبان الذين خطفوا واعتقلوا على يد المخابرات السورية في الحقبة الماضية. تراه يجلس في خيمة الاعتصام وسط جمع من الامهات والآباء والاقرباء الذين ما زالوا ينتظرون الاجوبة الواضحة والصريحة حول مصير أبنائهم المنسيين في المعتقلات وأقبية السجون من وراء الحدود.
الأمهات يجلسن على المقاعد الخشبية. ينظرن الى الافق، يتبادلن الاحاديث والذكريات بصمت. وفي خضم النقاش السياسي المفتوح تطرح احداهن سؤالاً مفاجئاً: "هل انتم مع زيارة البطريرك صفير الى سوريا لبحث قضيتنا بشكل مباشر مع الرئيس السوري؟"، تسود حالة من التفكير العميق وتبدأ الافكار بالتساقط على ظلال الخيمة، منهم من وافق وأبدى تشجيعه وحماسته لإمكانية حصول الزيارة، والبعض الآخر فضّل الصمت او الاعتراض، لتصرخ احدى الامهات وتقول بدورها: "اذا كانت زيارة الرئيس الحريري او البطريرك صفير تساهم في كشف النقاب عن مصير أولادنا فأنا معها...لما لا".
في احدى زوايا الحديقة، ترى أباً يرتشف سيجارته في الهواء الطلق. جسده المتعب في مكان وعيونه وافكاره في مكان آخر. انه كريم عباس الذي فقد ابنه المخطوف منذ ثمانية اعوام على يد المخابرات السورية. يطفئ الأب نار "سيجارته المحروقة" ليخبرنا قصة فقدان احمد في أحد أحياء الضاحية الجنوبية بعد إشكال بسيط مع احد عمال البلاستيك المخابرات السورية في العام 2001. وبين الحينة والاخرى، يتوقف العم كريم عن الكلام. ليؤكد ان "الصبي مش مشكلجي ولا ابن شارع"، متمسكاً ببعض المعلومات التي جمعها من هنا وهناك التي تؤكد وجود ولده في احد السجون السورية.
تعابير قاسية تحملها صونيا عيد الذي اعتقل ابنها منذ 20 عاماً خلال احداث 13 تشرين الاول 1990. فضّلت تلك السيدة التوجه مباشرةً الى كل السياسيين والمسؤولين مهما كان انتماؤهم وبدون اي مقدمات لتدعوهم الى التركيز على ملف المعتقلين في السجون السورية والعمل على الافراج عنهم بأسرع وقت ممكن، "فلا يمكن السكوت عن هذه القضية ولا يمكن الاستمرار في المماطلة والتأخير، "مطلبنا الاساسي ان لا يعود أبناؤنا محمّلين على النعوش كبقية رفاقهم الذين قضوا سنوات في تلك السجون وسط كثير التجاهل وعدم الاعتراف بوجودهم".
ترفض السيدة صونيا الاستسلام، "لأنه لا مجال للتعب والملل وابني مازال خارج المنزل"، الا انها تحمل الكثير من الامل في زيارة الرئيس الحريري، لأن عودة العلاقات الى طبيعتها مع سوريا من دولة الى دولة بعيداً عن الاحقاد والصراعات يمكن ان يفعّل ويحرّك هذا الملف على اعلى المستويات، "ولهذا اتمنى عليكم ألاّ تحرقوا قلوب الامهات المشتاقة الى لقاء اولادها بأقرب وقت مهما طال الزمن".
يؤكد عاد ان ذكر مسألة المعتقلين في بنود البيان الوزاري جاء نتيجة نضال طويل خاضه الاهالي بعد اضاءتهم على هذا الموضوع طوال السنوات الماضية، "ولكننا نريد اكثر من وعود ونصوص، فلا بد من خلق آلية علمية وجدية لمتابعة وملاحقة وحل هذا الملف بين لبنان وسوريا، ومن هنا أعلّق الكثير من الآمال على الزيارة الرسمية للرئيس الحريري اذ ستكون بمثابة خطوة اولى تكسر الجليد بينه وبين القيادة السورية، وبالتالي يمكن ان تفتح الباب لمعالجة هذا الملف في الاجتماعات واللقاءات التي تلحق هذه الزيارة، لتتابع الحكومة اللبنانية فيما بعد مسار ومصير معتقلينا في الشام بعدة طرق ووسائل". عاد المقتنع انه لا يمكن تحميل الرئيس الحريري كل الملفات دفعة واحدة، يؤمن ان هذه الزيارة ستسمح بتبادل الاراء والافكار لتحضير جدول اعمال واضح يؤدي الى معالجة المشاكل العالقة بين البلدين تمهيداً لحلها".
التجارب والقصص الانسانية المعبّرة تكاد لا تنتهي في مخيم الاسكوا، من ماري حداد المتمسكة بهدوئها وصبرها وصلواتها اليومية في انتظار معرفة اي معلومات عن مصير ابنها ايلي، الى ساميا عبدالله التي تضع صورة صغيرة لأخيها عماد كتب عليها الى متى؟. تلك الاخت التي حملت وصية والديها وهم على فراش الموت بعد 18 سنة من الانتظار عندما قالوا لها "تابعي قصة اخيك الصغير عماد حتى آخر لحظة من حياتك". لا تزال صامدة في الخيمة تتساءل اذا ما أصبح شعر عماد أبيضَ بعد كل تلك السنوات الطوال، "لأنه حين اختطف كان في زهرة شبابه، فكيف أنسى أخي وأنا أنتظر اللحظة التي أحتضنه الى قلبي وأبكي على صدره؟".
الاعتصام أعطى قوة كبيرة للامهات والآباء والاقرباء، كذلك الامر لماري منصوراتي والدة داني المسجون منذ العام 1992 في سوريا، تلك السيدة التي تتمترس على كرسيها البلاستيكي وسط هبوب الهواء البيروتي البارد الذي يلفح وجهها المليء بالتجاعيد والهموم والأسى، تطالب كل الطبقة السياسية بأن يتحلّوا بالانسانية وان يكشفوا النقاب عن مصير ابنائنا، وليرحموا تلك الامهات الثكلى اللواتي أمضين سنوات في الشوارع وفي التظاهرات بحثاً عن اجوبة لأسئلة باتت غامضة وواضحة في الوقت نفسه.
السكوت علامة الرضى، ولكن زيارة الحريري على ما يبدو تدفع الاهالي بالمضي قدماً في مطالبهم لأنها تحمل الكثير من الرمزية والقوة للدولة اللبنانية. فهنا في المخيم الكل تمنى للرئيس الحريري التوفيق "في زيارته الشجاعة الى دمشق"، على أمل ان يتكلم باسمهم ويوصل صوتهم في باحة قصر المهاجرين عندما يلتقي الرئيس السوري بشار الاسد.
"وحياتك يا دولة الرئيس رجّعلنا ولادنا"، تقول السيدة سميرة والدة اسكندر الذي لم يعد، لترد عليها احدى السيدات : "الجواب والحل عند الاسد، ولكن هل سيتجاوب الرئيس السوري مع مطالب الحريري والملفات التي سيطرحها؟"...
عندما حان وقت المغادرة، مشاعر انسانية جيّاشة تشدّك نحو الاهالي العظماء مجدداً، وتجعلك متمسكاً اكثر من ذي قبل بهذه القضية الجوهرية، وبالعناوين التي يحملونها. فدمعة أمّ واحدة، ونظرة أب مشتاق لابنه البكر تكاد تكون كافية لتجعلك تجثو على ركبتيك امام تواضعهم وأحقية مطالبهم. فهل تعود العلاقات اللبنانية السورية الى رتبة المميزة والطبيعية في حال تم التوصل الى حل شامل للمعتقلين في المزة وصيدنايا والاقبية الاخرى، وفي حال ارتضت القيادة السورية الاجابة على كل تلك الاسئلة؟.
لا شك ان مهمة الحريري تبدو صعبة، طويلة وشاقة، ولكنه على الاقل سيحمل هذا الملف على كتفيه. في الانتظار تودعّك لافتة كبيرة مليئة بالصور كتب عليها: "مفقودون...ولم يعودوا بعد". فالى متى؟.
() اعلامي في موقع 14 آذار
Living Room Design
9 years ago
No comments:
Post a Comment